مع حديث سجود الشمس
حديث من الأحاديث التي يُطعن بها على المنهج النقدي للمحدثين رقم (3)
في الصحيحين عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( أتدري أين تذهب هذه الشمس إذا غربت؟ قلت: لا. قال: إنها تنتهي فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن، فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا )) . استشكل البعض هذا الحديث إذ يفهم منه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتكلم من منطلق أن الأرض مسطحة وثابتة، والشمس هي التي تدور حولها، تخرج من المشرق، وتغرب من المغرب.
وجعله البعض الآخر دليلا على عدم دقة منهج النقد عند المحدثين.
وبداية نقول:
إنه إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أبدا أن يكون معارضًا لما هو كائن في الواقع، بل إما أن فهمنا للواقع غير صحيح، أو فهمنا للنص غير صحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخبر إلا بالحق، وأخبار الوحي -كتاباً وسنة- لا يمكن أن يدخلها الخطأ.
فيبقى الأمر -في حقنا- هو: وجوب النظر فيما يزيل هذا الإشكال الذي وقع في نفوسنا.
الطعون الموجهة للحديث :
وأول طعن يُوجَّه إلى هذا الحديث : أنه يخالف العلم الحديث من جهة أنه جعل الشروق والغروب من فعل الشمس , مع أن الليل والنهار هو بسبب دوران الأرض , فهو من عمل الأرض , لا من عمل الشمس .
والجواب عن هذا الطعن : أن هذا الذي توهّمه هذا الطاعن لا يختص بالسنة , بل هو وارد في القرآن أيضًا ورودا كثيرا !! حتى إن ظواهر القرآن الكريم تكاد تصل إلى حد الصراحة -وأؤكد على كلمة ظواهر- في أن الحركة إنما تصدر من الشمس لا من الأرض ، وما هذا الحديث إلا أحد نصوص الوحي التي تحدثت بهذا الأسلوب العربي عن هذه الحقيقة !
ومن ذلك :
أ- قوله تعالى عن حوار إبراهيم عليه السلام مع النمرود { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } , فوصف الله تعالى الشمس بأنها هي التي تأتي من المشرق .
ب - قوله تعالى: "فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً" [الأنعام:78] , فنسب البزوغ لها.
ج- قوله تعالى -في قصة أصحاب الكهف-: "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال" [الكهف:17] . فهذه أربعة أفعال نُسبت إلى الشمس: الطلوع، والغروب، والازورار , والقرض.
د- وفي قصة ذي القرنين يقول تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ". إلى قوله "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ". [الكهف:86-90] , فنسب الغروب والطلوع إليها , بل وصفها الله تعالى أنها تغرب في عين حمئة !
هـ- ومن تلك الأدلة قوله تعالى: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" إلى قوله سبحانه: "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" [يس:38-40] , فنسب الجري والإدراك للشمس , والشمس وإن كانت تسبح في فلكها , لكن غياب القمر وبدوّ الليل وعود النهار لا علاقة له بجريان الشمس .
و- وفي قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى عنها: "حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ" [ص:32] , أي إن الشمس غربت، فنسب التواري إليها.
فأنت ترى أن نسبة هذه الأفعال كلها للشمس أمر ظاهره في أنها هي التي تتحرك , وأن حركتها هذه هي التي تسبب الشروق والغروب ومجيء الليل ورجوع النهار . ونحن نعلم أن هذه الأفعال المنسوبة للشمس في كتاب ربنا إنما هي فعل الأرض في الحقيقة بدورانها على نفسها , ومع ذلك جاءت نسبتها إلى الشمس , فإذا كانت نسبة هذا الأفعال للشمس طعنا في الحديث , فستكون طعنا في القرآن قبله !!
وقبل أن أجيب عن هذا الإشكال الظاهري (غير الحقيقي) : أود التذكير بأن القرآن الكريم لم ينف عن الأرض الحركة (كما قد يتوهم بعضهم) , بل فيه ما يشهد لحركتها , وهو العموم الوارد في قوله تعالى { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . وعليه فلا تعارض بين القرآن والواقع العلمي الذي يثبت حركة الأرض.
أما الجواب عن هذا الإشكال , فهو جواب سهل , لا يغيب إلا عمن أراده أن يغيب عن عقله ! فهو : أن نسبة الغروب والشروق إلى الشمس نسبةٌ صحيحةٌ ؛ باعتبار نظر العين لها . كما ينسب العقلاء إلى الظل الحركة والامتداد والنقص { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا } , فيقول الناس : زاد الظل , نقص الظل , امتدّ الظل , أظلنا الظل ... وهو عندهم جميعا وفي علم كل عاقل إنما هو انعكاس حركة الشمس حسب الظاهر , وحركة الأرض حسب الحقيقة . فنسبة الحركة للشيء حسب الظاهر الذي يبدو للعين مع العلم بأن هذه النسبة مخالفة للحقيقة ليس أمرًا تمنعه اللغة , ولا تجفوه طريقة الناس في التعبير , ولا يدل على أن قال هذا التعبير يظن خلاف الحقيقة , ولا تجد الناس يُغلّطون من قال : أظلنا الظل , فلا يقولون له : بل الذي أظلك هو دوران الأرض الذي مدّ ظل الحائط عليك !
ولذلك لا يكون في نسبة حركة الشروق والغروب إلى الشمس , مع أنه ناتج عن حركة الأرض ودوارنها على نفسها : ما يُستنكر ؛ لأن هذه النسبة تصح في التعبير : من جهة أنها حكايةٌ لما تبصره العين وما يظهر للرؤية المجردة .
هذا أول إشكال وارد في القرآن قبل السنة : أجبنا عليه . فمن بقي يطعن به في السنة , فليعلم أن طعنه هذا لن يقف عند الطعن في السنة , بل سيتناول طعنُه القرآن الكريم . وليسمح لنا بعد ذلك أن نصفه بالطاعن على القرآن ودين الإسلام ؛ لأن هذه هي الحقيقة .
مع أننا قد بينا آنفًا الجواب السهل في هذا الطعن , بما لا يسمح بأن يكون طعنا في السنة والقرآن معًا ؛ إلا عند من أبى إلا الطعن !
وعلى هذا يكون أول طعن في حديث الصحيحين حول نسبة الشروق والغروب إلى الشمس قد تم الجواب عنه .
وبقي الطعن الثاني : وهو وصف الشمس بأنها تسجد .
والجواب عن ذلك : أن سجود الشمس ثابت في القرآن الكريم: قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" [الحج:18] .
فليس سجود الشمس مما انفردت به السنة , حتى يكون سجودها مطعنا في مرويات السنة .
بل لقد أخبرنا القرآن عما سوى السجود , وما هو أعجب منه من تسبيح الجمادات والحيوانات والطيور وأجرام السموات , وقنوتها لله تعالى , وخشيتها لله تعالى , وطاعتها له عز وجل . كل هذا في كتاب الله تعالى , في آيات كثيرات .
ومن المعلوم أن سجود هذه المخلوقات ليس هو السجود على سبعة أعضاء كبني آدم , كما أن تسبيحها ليس هو مثل تسبيح بني آدم { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } . [الإسراء : 44] .
ولا شك أن من معاني السجود : الخضوع لسلطان الله تعالى ولسننه وقوانينه الكونية , ولقضائه وقدره . وهذا سجودٌ وعبادة تشمل الكافر والمسلم , والطائع والعاصي , والحي والجماد . وهناك سجود آخر وعبادة أخرى تخص الطائعين من الخلق دون العصاة من الثقلين خاصة , وهما سجود وعبادة وطاعة تشمل المخلوقات كلها أيضا : من حي وجماد ؛ إلا ما استُثني من عصاة المكلفين : قال تعالى { ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت : 11] . ومن المعلوم أن السموات والأرض وكل مخلوق لا يمكن أن يخرج عن سلطان الله , وهذا هو معنى قوله تعالى للسموات والأرض { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } , ومع ذلك فقد اختارت السموات والأرض طاعةَ الاختيار فـ{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } , فاختارتا الطاعة مع انقهارهما لسلطان الله تعالى غير الاختياري . ولذلك وقع تخصيص هذه العبادة الاختيارية بكثير من الناس دون جميعهم ودون جميع الخلق ! في قوله تعالى : "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" [الحج:18] . وهذه العبادة الاختيارية للكون كله ليس اختياره فيها كاختيار بني آدم , كما أن تسبيحه وسجوده وقنوته وخشوعه ليس كبني آدام , فقد يكون اختيارا وقع في الأزل , ثم جُبلت عليه , عندما وقع عرض الأمانة على الخلق : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب : 72] . وقد يكون أمرًا آخر , الله أعلم به .
المهم أن نعلم : أن عبادة الشمس وسجودها لله تعالى ثابت بنص القرآن , وأن هذا السجود ليس كسجود بني آدم , وأننا لا نفقه حقيقته ولا طريقته , كما لا نفقه حقيقة تسبيحها { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
وهذا ثاني طعن في السنة , يجب أن يكون بحسب سوء فهم الطاعن فيها : طعنا في القرآن الكريم أيضًا . فإن تبين أنه ليس طعنا في القرآن الكريم , فقد تبين (لزوما) أنه ليس طعنا أيضًا في السنة المشرفة !
وبقي من الطعن ما يخص هذا الحديث , وهو :
1- كيف يُتصور سجود الشمس عند الغروب خاصة , والشمس لا تفتأ غاربة عن قطعة من الأرض شارقة على قطعة أخرى منها ؟!
2- وتتمة لهذا الطعن : متى تذهب الشمس تحت العرش للسجود ؟ وهي لا تبرح فلكها , ولا تبرح الأرض تدور فتغرب الشمس على جزء منها وتشرق على آخر !!
ونبدأ بالطعن الأول : كيف يُتصور سجود الشمس عند الغروب خاصة , والشمس لا تفتأ غاربةً عن قطعة من الأرض شارقةً على قطعة أخرى منها ؟!
فأقول : إذا تذكرنا أن للشمس سجودا وطاعة لله تعالى اختيارية (ولو باعتبار أصلها) وقهرية , وأنهما في حقيقتهما عبادة ملازمة لها أبدًا , فلا تنفك الشمس عابدة لله تعالى في كل لحظة : ساجدة مسبحة خاشعة خاضعة . فمعنى ذلك : أن الشمس لا تنفك ساجدة لله تعالى في كل حين , وأنه لا يلزم من سجودها توقفها عن سباحتها في فلكها , ولا توقف دوران الأرض ؛ فهي في حالة سجود دائم , وحالة عبادة وخضوع لا تنقطع . وهذا كله مما يدل عليه القرآن قبل السنة , كما سبق .
بقي : لماذا جاء في السنة ما يوحي بأن هذا السجود خاص بلحظة الغروب ؟ مع أنه سجود دائم , كما دل عليه القرآن الكريم !
ولذلك جوابان :
الأول : أن الله تعالى يريد من عباده أن يستحضروا عبودية الشمس له تعالى في هذه اللحظة الجليلة , وهي لحظة غروبها وغيابها . خاصة مع وجود من يعبد الشمس من بني آدم , وبالأخص عند الشروق والغروب , ولذلك نُهينا عن الصلاة في هذين الوقتين , نهيا عن التشبه بعبدة الشمس .
فالإخبار عن سجود الشمس في هذا الوقت خاصة ليس المقصود به نفي سجودها في غيره , وليس خبرًا مجرّدا عن الشمس , ولا هو محض معلومة كونية عنها (لا علاقة لها بالمعاني الإيمانية) , بل (كما هي عادة الأخبار الكونية في القرآن والسنة ) إنما تأتي هذه الأخبارُ عَرَضًا لمعانٍ إيمانية وفي سياق الهداية الربانية . فليس في كون هذا الخبر خبرًا إيمانيًّا (بمعنى : أن المقصود به الإفادة الإيمانية منه) : ما يخرج به عن سياق بقية نصوص الوحيين في استهداف الهداية , ولا ما يُستغرب في نسقهما العام عند إيراد الحقائق الكونية بقصد زيادة الإيمان .
إذن يكون المقصود بالإخبار عن سجود الشمس لحظة الغروب : ليس هو تخصيصَ هذا الوقت باعتقاد سجودها فيه دون غيره , وإنما هو تخصيص هذا الوقت لاستحضارنا نحن سجودها فيه لله تعالى خاضعة خاشعة .
فعلى كل مسلم غربت عليه الشمس أن يستحضر هذا المعنى , في أي بقعة كان من الأرض . وهو يعلم أن مسلما قبله قد استشعره عندما غربت عليه الشمس , ومسلما بعده سوف يستشعره إذا غربت عليه الشمس . هذه هي الحكمة من هذا الخبر النبوي , ولذلك خُصت لحظة الغروب بهذا الخبر عن سجود الشمس فيها .
وما أعظم هذا الشعور ! عندما تستشعر في لحظة الغروب المهيبة هذا المعنى الجليل : وعندما يذهب المسلم ليصلي صلاة المغرب , فيسجد المصلون وتسجد الشمس أيضًا , والمسلم يشعر أنه يصطف مع الشمس في لحظة خشوع وخضوع كوني لله تعالى وحده ! فأي تناغم يسمو فوق تناغم هذه التسبيحات ؟! وأي محبة تعلو فوق محبة تشترك فيها كل الموجودات ؟! وأي أُنس يعيشه المؤمن وهو يتوافق ويتشارك مع هذه الأجرام العظيمة وغيرها من بقية المخلوقات ؟!!
فلا تسمحوا لأحد أن يُفسد عليكم هذا المعنى الإيماني , باعتراضاتٍ تهوي بكم من التحليق في هذه الأجواء الروحانية إلى حضيض المادة , وتنقلكم من هذا المورد العذب من موارد الوحي إلى جفاف الظنون العقلية والغرور بها , وتختطفكم من مجلس الأنس بالعبادة مع الخلق إلى وحشة العزلة والغربة بين الخلق !
هذا هو الجواب الأول .
والجواب الثاني : ثبت في السنة من وجوه عديدة وعن عدد من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإخبار عن أن من علامات الساعة : طلوع الشمس من مغربها ؛ إيذانًا بزوال العالم وقيام الساعة . وأشارت الآية إلى ذلك , {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [الأنعام : 158] , وبه فسرها النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعنى ذلك : أنه عندما يشاء الله تعالى طلوع الشمس من مغربها , سوف يختار الله تعالى لحظة معينة من لحظات غروبها التي تمتد على مدار اليوم , لتشرق فيها بعد الغروب : أي لتعود حسب رأي العين أدراجها .
وهذا يعني : أن هناك نقطة معينة من الأرض ستكون هي نقطة طلوع الشمس من مغربها , ليفاجأ أهل الأرض بهذا الحدث الكوني الهائل المؤذن بزوال الدنيا .
ولذلك فقد يكون للشمس سجودٌ خاصٌّ كلما دارت الأرض فوصل غروبها عند تلك النقطة , فتسجد الشمس حينها ذلك السجود , وتستأذن الله تعالى فيما تعمل .
ولا يلزم من هذا السجود الخاص توقف لحظة ؛ إلا إذا كنا نزعم أننا قد عرفنا حقيقة سجود الشمس ! وإذا ادعينا أن سجودها كسجودنا !! عندها فقط يصح الاعتراض على هذا السجود بأنه معارض لما نعلمه من أن الشمس لا تنفك شارقةً غاربةً بلا تَوقّفِ سجودٍ ولا ركوع ! فأما إذا اعترفنا بالعجز عن فهم حقيقة سجود الشمس , وما دام سجودها أمرًا نجهل حقيقته تمام الجهل , وما دامت تُسبّح تسبيحا لا نفقهه , فكيف إذن يعترض بعضنا على ما لا يعرف بما لا يعرف ؟! هذا هو اعتراض الجهل المركب ! اعتراض من لا يدري , ولا يدري أنه لا يدري !!
وخلاصة هذا الجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن أن الشمس تسجد سجودا خاصا (لا يلزم منه توقف الزمن) عند النقطة التي ستنعكس منها حركة الغروب والشروق عند قيام الساعة . وهذا الإخبار ليس فيه ما يعارض العقل والحس , كما يزعم السطحيون في تفهم نصوص الوحي .
وبهذين الجوابين نكون قد أجبنا على الاعتراض الأول , وبقي الاعتراض الثاني : وهو الاعتراض القائل : متى تذهب الشمس تحت العرش للسجود ؟ وهي لا تبرح فلكها , ولا تبرح الأرض تدور فتغرب الشمس على جزء منها وتشرق على آخر !!
والحقيقة أن هذا الاعتراض نابع من عدم معرفة التصور الإسلامي الصحيح للكون , وهو : أن الكون كله وفي كل لحظة هو تحت العرش ؛ فالشمس تحت العرش دائما . وهذا هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة , ولا خلاف فيه بين أحد من علماء المسلمين .
وعلى هذا : فليس في قوله صلى الله عليه وسلم عن الشمس : (( إنها تنتهي فتسجد تحت العرش )) ؛ إلا كما تقول عن المصلي : ذهب يقابل الله تعالى , ذهب يسجد تحت العرش ! ولا تعني بذلك أنه غائب عن الله تعالى لحظة , ولا أنه لم يكن تحت العرش في غير تلك اللحظة .
وبذلك أرجو أن أكون قد أجبت عن الاعتراضات التي فهمتها من المعترضين على هذا الحديث , وأن أكون قد فكّكتها اعتراضا اعتراضا , لكي أيسّر الفهم الصحيح لهذا الخبر النبوي الصحيح .
وهذا الفهم يكفي لبيان أنه لا يصح أن ننسب للمحدثين تصحيح ما لا يقبله العقل وما يعارض العلم ؛ لأن هذا الفهم ليس فيه ما يعارض العقل والعلم , بل بينا أن في هذه الاعتراضات هي المخالفة للمنهج العلمي الصحيح في التفهّم , وأنها تتضمن اعتراضات مبنيةً على الجهل المركب الصعب في تفكيكه وإقناعه ! وقد حاولت جهدي , فإن وفقت فبفضل الله وحمده .
فإن انشرح الصدر لهذا الجواب فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، وإلا فعلينا -جميعاً- أن نؤمن ونصدق وإن لم تدرك عقولنا الحقيقة، ونقول: صدق الله ورسوله، مبتعدين بذلك عن مسالك بعض الناس الذين جعلوا عقولهم حاكمة على النصوص،
وما أعظم جناية هؤلاء على الشريعة!
وإنني لأتعجب منهم ! هل أحاطت عقولهم بالغيب؟! أليسوا يجهلون كنه وحقيقة الروح التي بين جنوبهم؟! فكيف يتصورون أنهم لابد أن يفهموا وجهة كل نص من النصوص التي تتحدث عن الأمور الغيبية سواء في الدنيا، أو في الآخرة؟!
وكم من الأحاديث التي تتحدث عن أمور غيبية لو حكمنا فيها عقولنا القاصرة لعجزنا عن إدراكها، ولكن معاذ الله أن نجعل عقولنا حاكمة على خبر الله ورسوله، بل نقول في باب الأخبار: آمنا وصدقنا. وفي باب الأحكام: سمعنا وأطعنا.
وثمة قاعدة تذكر في هذا الباب -أعني باب الإشكالات التي ترد في النصوص مع الواقع وغيره - : وهي قاعدة تريح قلب المؤمن إذا أخذ بها، وهي: أنه إذا لم تزل عنك الشبهة -مع صحة النص الشرعي- فعليك بالتسليم والتصديق ولو لم تفهم، فإن هذه هي حقيقة العبودية، وقل -كما قال خيار هذه الأمة-: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة:285] . بل هذه هي طريقة الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم بقوله: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" [آل عمران:7-8] .
ولقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الانقياد والتسليم، وإن كان الأمر في أول وهلة على غير ما تهواه نفوسهم، أولم يفهموا الغرض منه . وإليك هذين المثالين اللذين يجليان هذه المعاني :
1- ففي الصحيحين أن ظهير بن رافع، وهو عم رافع بن خديج -رضي الله عنهما- لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صورة معينة من صور المزارعة، قال: لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقاً -يعني فيه رفق بنا- قال رضي الله عنه: وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. صحيح البخاري (2339)، وصحيح مسلم (1548) .
2- ولما حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الدجال، قال الصحابة -رضي الله عنهم-: وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قلنا: يا رسول الله: فذلك اليوم الذي كسنةٍ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره". صحيح مسلم (2937) .
فانظر إلى عمق علم الصحابة -رضي الله عنهم-، كيف لم يقولوا: كيف يكون اليوم كسنة، أو كشهر، أو كجمعة؟ لأنهم يعلمون أن الله تعالى الذي جعل اليوم (24ساعة)، قادر على جعله أسبوعاً (168ساعة)، وقادر على جعله شهراً (720 ساعة)، وهكذا، بل سألوا عما يخصهم، وهو أمر دينهم، سألوا عن صلاتهم! فرضي الله عنهم وأرضاهم، ما أعمق علمهم، وأقوى تصديقهم!
نسأل الله تعالى أن يرزقنا السير على طريقتهم في العلم والعمل، وأن يجمعنا بهم في الجنة بحبنا إياهم، والله تعالى أعلم.