الدوافع الروحية للعبادة:
وهناك نقطةٌ لا بُدَّ من إثارتها في الحديث عن عبادة اللّه في مواقع توحيده والإخلاص له، وهي الدوافع الروحية التي تدفع الإنسان المؤمن إلى العبادة.
فهناك الدوافع المتحرّكة من خلال الرغبة في الحصول على الجنّة، على أساس الحصول على رضاه، وهناك الدوافع المنطلقة من خلال الرهبة من النّار، على أساس البعد عن مواقع سخطه، وهناك الدوافع المنفتحة على اللّه في مواقع ألوهيته في عظمته في كلّ صفاته الجمالية والجلالية، على أساس استحقاقه للعبادة في ذاته، بعيداً عن عامل الرغبة أو الرهبة.
وقد يخيّل لبعض النّاس أنَّ العبادة الحقيقية تتمثّل في الصنف الثالث، لأنها المظهر الحيّ للخضوع للذات الإلهية، من دون أن يكون هناك أيّ شيءٍ للعنصر الذاتي للعابد، في ما يحتاج إليه من ربحٍ لمصلحته، أو في ما يبتعد عنه من خسارةٍ لحساب حاجته، فإنَّ الرغبة والرهبة حالتان إنسانيتان تحرّكان الإنسان نحو ذاته حتى في انفتاحه على اللّه، أكثر مما تحركانه نحو اللّه في مواقع ألوهيته.
وهذا هو الإيحاء الفكري، في ما جاء عن الإمام عليّ (ع) في نهج البلاغة، قال: «إنّ قوماً عبدوا اللّه رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا اللّه رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنَّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الأحرار« فقد نلاحظ ـ في هذه اللفتة التعبيرية ـ لوناً من الإيحاء بأنَّ الإنسان الذي ينطلق من الرغبة إنسانٌ تاجرٌ يتحرّك من الذهنية التجارية، كما أنَّ الذي ينطلق من الرهبة عبدٌ يتحرّك من عقلية العبيد الهاربة من كلّ عقاب.. فليستا حالتين في العبادة، بل هما حالتان ماديتان في الاستغراق الإنساني في ذاته، في ما يجلب لها من النفع أو يدفع عنها من الضرر. وقد نقل عنه أنه قال:
»إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك«.
ولكنَّنا لا نرى في عنصر الخوف والطمع أيّة منافاة للمعنى العميق للعبادة، لأنَّ الخضوع الإنساني المستغرق في ذات اللّه ـ المعبود، ينطلق من التفكير في عظمته، بحيث يشعر بأنَّه مشدودٌ إليه في وجوده، ومفتقرٌ إليه في حاجاته، وخاضعٌ له في مصيره، فإنَّ الرغبة أو الرهبة ـ بالمعنى المطلق ـ لا تتعلّقان إلاَّ بالذي يملك الأمر كلّه، من خلال أنه يملك الوجود كلّه، بحيث لا يغيب عنه شيءٌ منه ولا يعجز عن شيء فيه، ولا يعجزه أحدٌ من المخلوقين. ولا سيّما إذا كانت مواقع الرغبة أو الرهبة خارجةً من دائرة الحس وداخلة في دائرة الغيب، مما لا يتمكن أحدٌ من المخلوقين الوصول إليه، كما هي الجنّة والنّار.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا بُدَّ من وعي مسألة العظمة في عمق مسألة الحاجة، على أساس أنَّ ذلك هو الذي يجعله أهلاً للعبادة، لأنه الذي يرجع إليه في كلّ شيء ولا يُرجَع إلى غيره إلاَّ من خلاله، ولأنه الذي يخاف منه كلّ شيءٍ، ولا يخاف من أحدٍ إلاّ من خلاله.
وبذلك يختزن الخوف منه والطمع فيه معنى أهليّته للعبادة، الأمر الذي لا يسيء إلى معنى العبادة بل يؤكدها بطريقةٍ أخرى.
وقد جاء في القرآن الكريم التأكيد على استقامة العبادة في هذا الخطّ، وذلك كما في قوله تعالى: << تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً >> (السجدة:16)، وقوله تعالى: << وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَة اللّه قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ>> (الأعراف:56)، وقوله تعالى: << يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ >> (الإسراء:57).
وعلى هذا الأساس، تنطلق التربية الإسلامية لتؤكد على الجانب الإنساني في التطلّعات الذاتية التي يعيشها النّاس في ما يتحرّكون فيه من قضايا وأوضاع، على أساس رغبتهم بما يصلحهم، وخوفهم مما يفسد أمورهم، فإنَّ من الصعب عليهم أن يتجرّدوا من ذلك في حركة وجودهم المنفتح على العنصر المادي، من خلال طبيعة الحسّ المادي في الذات. ولذلك، فقد انفتح الإسلام على هذا الجانب، فلم يُبعد الإنسان عنه، ولم يجعله ضدّ القيمة الروحية، بل وجّهه إلى الارتباط باللّه في مواقع الرغبة والرهبة على مستوى الدنيا والآخرة، وفي ما هي قضايا النعمة والبلاء في الدنيا، وقضايا الجنّة والنّار في الآخرة، على صعيد سلامة الذات في ما تحتاجه وفي ما تخاف منه، ما جعل الحسّ الإنساني الواقعي يلتقي بالقيمة الروحية المنفتحة على اللّه من خلال حركة الحياة في الوجود الإنساني.
وهذا هو المنهج الإنساني في تهذيب دوافع الإنسان في العمل بدلاً من إلغائها، ليتحرّك الإنسان من خلال الواقع لا من خلال المثال.
.. يتبع